مقدمة
حتى في خضمّ مذابح الحرب في سوريا، لم يُغضِب شيء المجتمع الدوليّ أو يثر غيظه بعمقٍ بقدر الاستخدام المتكرر للأسلحة الكيميائية المحظورة. في مناسبتين مختلفتين، إحداهما في 2018 والأخرى في 2019، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها، والذين كانوا قدّ اجتنبوا الانخماص في النزاع إلى حدٍّ كبير، ضرباتٍ عقابية على قوات الرئيس السوري بشار الأسد، رداً على انتهاكاتٍ هزّت ضمير العالم.
ولكن تلك لم تكن أول أو آخر مرة يُسجّل فيها استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا. خلال سنتين من العمل الجهيد مع شركائنا المحلّيين والدوليين، بنى فريقنا في المعهد الدولي للسياسات العامة ما يعتبر حالياً مجموعة البيانات الأكثر شمولاً حول استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا. حتى شهر أيار/مايو 2020، وبين 519 هجوماً، تمكنّا من تصنيف 349 منها على أنها مثبتة إلى درجة قابلة للتصديق، أو مؤكدة، أو مثبتة بشكل شامل. بإمكانكم التبحّر في المعلومات التي جمعناها من خلال خارطة حالات الاستخدام التفاعلية الخاصة بنا.
بناء على ما نشرناه في شباط/فبراير 2019 (بعنوان: لا مكان للاختباء)، لم نقم بعدّ الحوادث فحسب، بل حاولنا شرح كيفية استمرار الأسد وجيشه باستخدام هذه الأسلحة المروّعة، وأسباب استخدامهم لها، على الرغم من التهديد المستمر بإمكانية المعاقبة الدولية. فقط عندما نفهم أنماط ارتكاز استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا ومنطق استخدامها، نستطيع تقدير أثرها على الكارثة الإنسانية التي تجري في البلاد، ونطوّر بفعالية أكثر سياسات استجابة للمستقبل.
كتلة المعلومات التي قمنا بجمعها تُرينا ضخامة التحدّي الذي يطرحه الاستخدام المتكرّر للأسلحة الكيميائية في سوريا على الأعراف الدولية. وفعلاً، تُظهر بياناتنا أنه وعلى الرغم من فترات الهدوء التي نشهدها أحياناً—كما جرى بعيد الهجوم الكيميائي بالقرب من دمشق عام 2013، والذي أثار أزمة دولية—أصبحت الأسلحة الكيميائية عماد ساحة المعركة السورية منذ أواخر العام 2012، عندما قام ناشطون في حمص بالحديث للمرة الأولى عن ذخائر مثيرة للشبهات وأعراض غير مفهومة بين السكان المحليين. استمرت هذه الهجمات حتى أيار/مايو 2019، حين قامت القوات الحكومية السورية بإطلاق صواريخ مزوّدة بالكلورين على مواقع لقوّات المعارضة على إحدى الجبهات البعيدة بالقرب من قرية الكبانة في شمال غرب سوريا.
جدول زمني للحرب وأبرز الوقائع
الصورة الكاملة: الكلورين كسلاح
في الكبانة، كما في حوادث أخرى، استخدمت التشكيلات الحكومية التي أطلقت الهجوم ذخائر مرتجلة مصنعة ومصمّمة محلياً مملوئة بالكلورين، وهو مادة غير خاضعة للرقابة وعامل خانق أقل إماتةً من العوامل الكيميائية الأخرى، مثل عوامل الأعصاب كالسارين أو VX، وهي موجودة أيضاً في عتاد الحكومة السورية. تسبب الأغلبية الساحقة من هذه الاعتداءات عدداً قليلاً من القتلى، أو لا تقتل أحداً أبداً، وبالتالي لا يتم دائماً تسجيلها في خضم المجزرة المتواصلة يومياً في سوريا.
ولكن، بالنسبة للقوات الحكومية السورية، لا تعني قلة الإماتة قلة الفائدة. كونه مادةً غير خاضعة للرقابة لها استخدامات مدنية مشروعة ومهمة (مثلاً تنقية المياه)، من السهل والرخيص تحصيل الكلورين بكميات كبيرة. تُسَهِّل بنية سوريا التحتية تخزين الكلورين، والتعامل معه، وبنهاية المطاف تحويله إلى سلاح بدون معرفة أو معدات خاصة. 1
في حال تم استنشاقه، يتحول غاز الكلورين إلى حامض الهيدروكلوريك الذي يضرّ بجهاز الضحية التنفسي. في الحالات الأشد خطورة، تغرق الضحية نتيجة تراكم السوائل في رئتيها. رغم أنّ العاملين الطبّيين والمسعفين الأوليين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أحصوا 188 حالة وفاة ناتجة مباشرةً عن التعرّض للكلورين، إلّا أنّهم عالجوا أكثر من 5,000 فرداً أصيبوا بالغاز، ما زاد بشكل كبير الضغط على الخدمات الطبية المحلية التي كانت بالأساس ترزح تحت ضغط هائل.
بدأت أشعر بالدوار وعيناي كانتا تحرقانني، كما أصابتني نوبة سعال. شعرت وكأن صدري كان يمتلئ. كنت على حافة الإغماء. كان هنالك خمس ممرّضات في النقطة الطبية. عالجنا أنفسنا من خلال غسل وجهنا بالماء وأخذ موسّعات الشعب الهوائية. سجلت النقاط الطبية 33 إصابة في الاعتداء على الأقل، بينها خمسة من الفريق الطبي، و19 امرأة وطفلاً. 2
أهم ما في ذلك أن الأسلحة الكيميائية لها أثر نفسي هائل: كونه أثقل من الهواء، يهبط الكلورين إلى الخنادق، والمخابئ، والأقبية، حيث يلتجئ السكّان ليحتموا من النزاع التقليدي. كونها صامتة وخفية، تنشر الاعتداءات الكيميائية الذعر بين المدنيين غير القادرين على حماية أنفسهم. تظهر الأبحاث التي أجريت على الناجين من الحرب العراقية-الإيرانية أن ضحايا الاعتداءات الكيميائية وعائلاتهم عرضة أكثر للمعاناة مدى الحياة من اضطراب ما بعد الصدمة.
أثقل من الهواء، يتساقط الكلور في الخنادق والأقبية والملاجئ.
في شمال حماة عام 2014، أيّ بعد حادثة "الخطّ الأحمر" المصيرية في آب/أغسطس 2013 بثمانية أشهر فقط، أسس النظام السوري نموذجاً غدا نهج استخدامه للأسلحة الكيميائية خلال السنوات الأربع اللاحقة : الاستخدام الممنهج واسع النطاق والعشوائي للكلورين ضدّ البلدات التي تسيطر عليها المعارضة.
حماة 2014: نقطة الانعطاف
لا يتضح المدى الكامل لأثر الهجمات الكيميائية—بعيداً عن عدد الضحايا—إلّا من خلال المقابلات مع الشاهدين على الاعتداءات والناجين منها، ومن خلال الشهادات التي قدّموها. من خلال شركائنا، أو من خلال مقابلاتنا الخاصة، تمكنّا من جمع عدد كبير من الشهادات من ها النوع من الضحايا الذين عاشوا مجدداً الذعر الذي يرافق حالة الترقب، ورعب تلك اللحظة، والمأساة التي تلي هكذا هجمات.
بين الهجمات التي بلغت 349 على الأقل منذ أواخر 2012، وقعت 90% منها تقريباً بعد "الخط الأحمر" الشهير في آب/أغسطس 2013. تفيد البيانات المتوفرة لدينا في ضوء ذلك بمدى وخطورة تحدّي استخدام الأسلحة الكيميائية في النزاع. ولكن، بغية تطوير استجابات سياسات والمضي قدماً بالسعي نحو المحاسبة، نحاول أن نفهم بشكل أفضل كيف ولماذا استمرّت الحكومة السورية، طوال فترة الحرب، باستخدام سلاحً يحمل معه تهديداً بالقصاص الدولي.